فصل: تداخل الفدية في الإحرام مع اتّحاد المجلس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


اتّحاد الحكم

التّعريف

الاتّحاد لغةً‏:‏ صيرورة الشّيئين شيئاً واحداً‏.‏ وهو كذلك في الاصطلاح‏.‏ والحكم‏:‏ خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التّخيير أو الوضع‏.‏ ويتناول الأصوليّون اتّحاد الحكم في موضعين‏:‏ الأوّل عند ورود اللّفظ مطلقاً في مكان، ومقيّداً في آخر‏.‏ والثّاني عند الكلام على اتّحاد الحكم مع تعدّد العلّة‏.‏ أمّا الأوّل فينظر القول فيه تحت عنوان ‏(‏اتّحاد السّبب‏)‏‏.‏ وأمّا الثّاني وهو اتّحاد الحكم مع تعدّد العلّة، فقد جوّز الجمهور التّعليل للحكم الواحد بعلّتين فأكثر، قالوا‏:‏ لأنّ العلل الشّرعيّة أمارات، ولا مانع من اجتماع علامات على الشّيء الواحد‏.‏ وادّعوا وقوعه، كما في اللّمس والمسّ والبول مثلاً، يمنع كلّ منها الصّلاة‏.‏ وجوّزه ابن فورك والرّازيّ في العلّة المنصوصة دون المستنبطة، لأنّ الأوصاف المستنبطة الصّالح كلّ منها للعلّيّة يجوز أن يكون مجموعها هو العلّة عند الشّارع‏.‏ ورأى صاحب جمع الجوامع القطع بامتناعه عقلاً‏.‏ وانظر التّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

اتّحاد السّبب

التّعريف

1 - السّبب في اللّغة اسم للحبل، ولما يتوصّل به إلى المقصود‏.‏ والاتّحاد صيرورة الشّيئين شيئاً واحداً‏.‏ والواحد إمّا أن يكون واحداً بالجنس كالحيوان، أو واحداً بالنّوع كالإنسان، أو واحداً بالشّخص كزيد‏.‏ ويعرّف الفقهاء والأصوليّون السّبب بأنّه الوصف الظّاهر المنضبط الّذي أضاف الشّارع إليه الحكم، ويلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - ‏(‏السّبب والعلّة‏)‏‏:‏

2 - اختلف العلماء في العلاقة بين السّبب والعلّة، فقيل هما مترادفان، فالتّعريف السّابق صالح لهما‏.‏ ولا تشترط في أيّ منهما المناسبة‏.‏ وعلى ذلك نجري في هذا البحث‏.‏ وقيل‏:‏ إنّهما متباينان، فالسّبب ما كان موصّلاً للحكم دون تأثير ‏(‏أي مناسبة‏)‏، كزوال الشّمس، هو سبب وجوب صلاة الظّهر، والعلّة ما أوصلت مع التّأثير، كالإتلاف لوجوب الضّمان‏.‏ وقيل‏:‏ بينهما عموم وخصوص مطلق، فكلّ علّة سبب، ولا عكس‏.‏ واتّحاد السّبب هو تماثل الأسباب لأكثر من حكم أو تشابهها أو كونها واحداً‏.‏

ب - ‏(‏الاتّحاد والتّداخل‏)‏‏:‏

3 - التّداخل‏:‏ ترتّب أثر واحد على شيئين مختلفين، كتداخل الكفّارات والعدد‏.‏ فبين اتّحاد الأسباب وتداخلها عموم وخصوص وجهيّ، يجتمعان في نحو تعدّد بعض الجنايات المتماثلة، كتكرار السّرقة بالنّسبة للقطع، فالأسباب واحدة وتداخلت‏.‏ وينفرد التّداخل في الأسباب المختلفة الّتي يترتّب عليها مسبّب واحد، كحدّ القذف والشّرب عند بعض الفقهاء‏.‏ وينفرد الاتّحاد في نحو الإتلافين يجب فيهما ضمانان، وإن اتّحدا سبباً‏.‏

الحكم الإجماليّ

4 - إذا ورد المطلق والقيد، واختلف حكمهما، كما إذا قال‏:‏ أطعم فقيراً، واكس فقيراً تميميّاً، لم يحمل المطلق على المقيّد‏.‏ ونقل الغزاليّ عن أكثر الشّافعيّة الحمل عند اتّحاد السّبب، ومثّل له باليد، أطلقت في آية التّيمّم في قوله ‏{‏فتيمّموا صعيداً طيّباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه‏}‏ وقيّدت في آية الوضوء بالغاية إلى المرافق في قوله تعالى ‏{‏فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق‏}‏ فذهب الشّافعيّ في الجديد إلى أنّها تمسح في التّيمّم إلى المرافق‏.‏ وإن اتّحد الحكم مع اتّحاد السّبب، فإن كانا منفيّين عمل بهما اتّفاقاً، ولا يحمل أحدهما على الآخر، لأنّه لا تعارض، لإمكان العمل بهما، كما تقول في الظّهار‏:‏ لا تعتق مكاتباً، ولا تعتق مكاتباً كافراً، فإنّه يمكن العمل بالكفّ عنهما‏.‏ وإن كانا مثبتين ‏(‏أي في حال اتّحاد الحكم مع اتّحاد السّبب‏)‏ حمل المطلق على المقيّد مطلقاً، عند الشّافعيّة ومن وافقهم، أي سواء تقدّم أو تأخّر أو جهل الحال وإنّما حملوه عليه جمعاً بين الدّليلين‏.‏ وقيل إن وردا معاً حمل المطلق على المقيّد لأنّ السّبب الواحد لا يوجب المتنافيين، والمعيّة قرينة البيان، كقوله تعالى ‏{‏فصيام ثلاثة أيّام‏}‏ مع القراءة الشّاذّة الّتي اشتهرت عن ابن مسعود‏:‏ فصيام ثلاثة أيّام متتابعات فمن ذلك أخذ الحنفيّة وجوب التّتابع في صيام كفّارة اليمين‏.‏ وإن علم تأخّر المقيّد فهو ناسخ للمطلق نسخاً جزئيّاً، وقيل يحمل المقيّد على المطلق بأن يلغى القيد‏.‏ وقوع حكمين بعلّة واحدة‏:‏

5 - المختار جواز وقوع حكمين بعلّة واحدة، إثباتاً، كالسّرقة للقطع والغرم حين يتلف المسروق - عند من يرى الجمع بين القطع والضّمان - أو نفياً، كالقتل علّة للحرمان من الإرث والوصيّة‏.‏ وقيل يمتنع تعليل حكمين بعلّة بناءً على اشتراط المناسبة فيها، لأنّ مناسبتها لحكم تحصّل المقصود منها، فلو ناسبت آخر لزم تحصيل الحاصل‏.‏ وأجيب بمنع ذلك‏.‏ والقول الثّالث في هذه المسألة أنّه يجوز تعليل حكمين بعلّة واحدة إن لم يتضادّا بخلاف ما إذا تضادّا، كالتّأبيد لصحّة البيع وبطلان الإجارة‏.‏

مواطن البحث

6 - يذكر الفقهاء اتّحاد السّبب - أو اتّحاد العلّة - في الطّهارة في الوضوء، والغسل، وفي الصّوم ‏(‏كفّارة الصّيام‏)‏ وفي الإحرام ‏(‏محرّماته‏)‏ وفي الإقرار ‏(‏تكرار الإقرار‏)‏ وفي الحدود ‏(‏تكرار القذف، والزّنى، والشّرب، والسّرقة‏)‏ وفي الأيمان ‏(‏كفّارة اليمين‏)‏ وفي الجنايات على النّفس وما دونها‏.‏ وعند الأصوليّين يذكر اتّحاد السّبب في المطلق والمقيّد‏.‏ وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ‏.‏

اتّحاد العلّة

انظر‏:‏ اتّحاد السّبب‏.‏

اتّحاد المجلس

التّعريف

1 - الاتّحاد لغةً‏:‏ صيرورة الذّاتين واحدةً، ولا يكون إلاّ في العدد من اثنين فصاعداً، والمجلس هو موضع الجلوس‏.‏ ويراد به المجلس الواحد عند الفقهاء، وبالإضافة إلى ذلك يستعمله الحنفيّة دون غيرهم بمعنى تداخل متفرّقات المجلس‏.‏ وليس المراد بالمجلس موضع الجلوس، بل هو أعمّ من ذلك، فقد يحصل اتّحاد المجلس مع الوقوف، ومع تغاير المكان والهيئة‏.‏

2 - والأصل إضافة الأحكام إلى أسبابها، كقولهم كفّارة اليمين أو سجدة السّهو، وقد يترك ذلك وتضاف إلى غير الأسباب، كالمجلس للضّرورة، كما في سجدة التّلاوة إذا تكرّرت في مجلس واحد، أو للعرف، كما في الأقارير، أو لدفع الضّرر كما في الإيجاب والقبول‏.‏ واتّحاد المجلس يؤثّر في بعض الأحكام منفرداً، وأحياناً لا يؤثّر إلاّ مع غيره، وذلك نحو اشتراط اتّحاد النّوع مع اتّحاد المجلس في تداخل فدية محظورات الإحرام‏.‏ واتّحاد المجلس في العقود وغيرها على قسمين‏:‏ حقيقيّ بأن يكون القبول في مجلس الإيجاب، وحكميّ إذا تفرّق مجلس القبول عن مجلس الإيجاب كما في الكتابة والمراسلة، فيتّحدان حكماً‏.‏ واتّحاد المجلس في الحجّ يراد به اتّحاد المكان ولو تغيّرت الحال، وفي تجديد الوضوء عدم تخلّل زمن طويل، أو عدم الفصل بأداء قربة، كما تدلّ على ذلك عبارات الفقهاء في الوضوء والحجّ‏.‏

اتّحاد المجلس في العبادات‏:‏

3 - تجديد الوضوء مع اتّحاد المجلس‏:‏ تكلّم بعض الحنفيّة والشّافعيّة في تجديد الوضوء مع اتّحاد المجلس، ولهم في ذلك ثلاثة آراء‏:‏ الأوّل‏:‏ الكراهة في المجلس الواحد، للإسراف، وهو ما نقل عن بعض الحنفيّة، وهو وجه للشّافعيّة - ووصفوه بالغرابة - إذا وصله بالوضوء الأوّل ولم يمض بين الوضوء والتّجديد زمن يقع بمثله تفريق‏.‏ لأنّهم اعتبروه بمثابة غسلة رابعة الثّاني‏:‏ استحباب التّجديد مرّةً واحدةً مطلقاً، تبدّل المجلس أم لا، وهو قول عبد الغنيّ النّابلسيّ من الحنفيّة، لحديث‏:‏ «من توضّأ على طهر كتب له عشر حسنات»‏.‏

الثّالث‏:‏ الكراهة إذا تكرّر مراراً في المجلس الواحد، وانتفاؤها إذا أعاده مرّةً واحدةً وهو ما وفّق به صاحب النّهر بين ما جاء في التتارخانية وما في السّراج من كتب الحنفيّة‏.‏ هذا وأغلب الفقهاء على أنّه يسنّ تجديد الوضوء لكلّ صلاة، ولم ينظروا إلى اتّحاد المجلس أو تعدّده، وذلك للحديث السّابق‏.‏

تكرّر القيء في مجلس واحد

4 - لو قاء المتوضّئ متفرّقاً بحيث لو جمع صار ملء الفم فإن اتّحد المجلس والسّبب انتقض وضوءه عند الحنفيّة، وإن اتّحد السّبب فقط انتقض عند محمّد، وإن اتّحد المجلس دون السّبب انتقض عند أبي يوسف، لأنّ المجلس يجمع متفرّقاته‏.‏ ولم يشارك الحنفيّة في نقض الوضوء بالقيء إلاّ الحنابلة، لكنّهم لم ينظروا إلى اتّحاد السّبب أو المجلس، بل راعوا قلّة القيء وكثرته، تكرّر السّبب والمجلس أو لا‏.‏

سجود التّلاوة في المجلس الواحد‏:‏

5 - اتّفق الفقهاء على أنّ القارئ يسجد للتّلاوة عند قراءة أو سماع آية السّجدة، أمّا إذا تكرّرت قراءتها فإنّ المالكيّة والحنابلة على أنّ القارئ يسجد كلّما مرّت به آية سجدة ولو كرّرها، لتعدّد السّبب، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏ ولا يتكرّر السّجود عند الحنفيّة إن اتّحد المجلس والآية، حتّى ولو اجتمع سببا الوجوب، وهما التّلاوة والسّماع، بأن تلاها ثمّ سمعها أو بالعكس، أو تكرّر أحدهما‏.‏ وهو أحد قولين للشّافعيّة إن لم يسجد للأولى‏.‏ ومن تكرّر مجلسه من سامع أو تال تكرّر الوجوب عليه‏.‏

اختلاف المجلس وأنواعه‏:‏

6 - ما له حكم المكان الواحد كالمسجد والبيت لا ينقطع فيه المجلس بالانتقال إلاّ إن اقترن بعمل أجنبيّ كالأكل والعمل الكثيرين، والبيع والشّراء بين القراءتين‏.‏ واختلاف المجلس على نوعين‏:‏ حقيقيّ، بأن ينتقل من المكان إلى آخر بأكثر من خطوتين كما في كثير من الكتب أو بأكثر من ثلاث كما في المحيط‏.‏ وحكميّ، وذلك بمباشرة عمل يعدّ في العرف قاطعاً لما قبله، هذا عند الحنفيّة والشّافعيّة، أمّا غيرهم فالعبرة عندهم بالسّبب اتّحاداً وتعدّداً لا للمجلس‏.‏

سجود السّامع‏:‏

7 - لا فرق بين القارئ والسّامع عند الحنفيّة في سجود التّلاوة، ويأخذ المستمع لا السّامع حكم القارئ عند الشّافعيّة والحنابلة لقول ابن عمر‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السّورة في غير الصّلاة فيسجد ونسجد معه» وربط المالكيّة سجود المستمع الّذي جلس للثّواب والأجر والتّعليم بسجود القارئ، فلا يسجد إن لم يسجد القارئ، فإن سجد فحكى ابن شعبان في ذلك قولين‏.‏

الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع اتّحاد المجلس

8 - للفقهاء آراء عديدة في حكم الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كلّما ذكر في غير الصّلاة‏.‏

ويتعلّق بالمجلس منها ثلاثة آراء‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّها تجب كلّما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ولو اتّحد المجلس، وبه قال جمع منهم الطّحاويّ من الحنفيّة، والطّرطوشيّ، وابن العربيّ، والفاكهانيّ من المالكيّة، وأبو عبد اللّه الحليميّ وأبو حامد الإسفرايينيّ من الشّافعيّة، وابن بطّة من الحنابلة، لحديث «من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ فدخل النّار فأبعده اللّه»‏.‏

الثّاني‏:‏ وجوب الصّلاة مرّةً في كلّ مجلس، وهو ما صحّحه النّسفيّ في الكافي حيث قال في باب التّلاوة‏:‏ وهو كمن سمع اسمه مراراً، لم تلزمه الصّلاة إلاّ مرّةً، في الصّحيح، لأنّ تكرار اسمه صلى الله عليه وسلم لحفظ سنّته الّتي بها قوام الشّريعة، فلو وجبت الصّلاة بكلّ مرّة لأفضى إلى الحرج‏.‏ وهو قول أبي عبد اللّه الحليميّ إن كان السّامع غافلاً فيكفيه مرّة في آخر المجلس‏.‏

الثّالث‏:‏ ندب التّكرار في المجلس الواحد، ذكره ابن عابدين في تحصيله لآراء فقهاء الحنفيّة‏.‏ وبقيّة الفقهاء لا ينظرون إلى اتّحاد المجلس، فمنهم من يقول‏:‏ إنّها واجبة في العمر مرّةً، ومنهم من يقول بالنّدب مطلقاً اتّحد المجلس أم اختلف‏.‏ وتفصيل ذلك يذكر في مبحث الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

ما يشترط فيه اتّحاد المجلس‏:‏

أوّلاً - ما يتمّ به التّعاقد في الجملة‏:‏

9 - ويراد به عند فقهاء الحنفيّة‏:‏ ألاّ يشتغل أحد العاقدين بعمل غير ما عقد له المجلس، أو بما هو دليل الإعراض عن العقد‏.‏ وهو شرط للانعقاد عندهم‏.‏ وهو بهذا المعنى يعتبر شرطاً في الصّيغة عند بقيّة المذاهب‏.‏ وهو يدخل في المجلس العقد عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ووقته ما بين الإيجاب والقبول‏.‏ ومع اتّحاد المجلس لا يضرّ الفصل بين الإيجاب والقبول عند غير الشّافعيّة ما لم يشعر بالإعراض عن الإيجاب، لأنّ القابل يحتاج إلى التّأمّل، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التّأمّل‏.‏ ويضرّ الفصل الطّويل عند الشّافعيّة‏.‏

خيار القبول مع اتّحاد المجلس‏:‏

10 - يثبت خيار القبول للمتعاقدين عند الحنفيّة ما داما جالسين ولم يتمّ القبول، ولكلّ منهما حقّ الرّجوع ما لم يقبل الآخر‏.‏ ولا يخالفهم الحنابلة في ذلك، لأنّ خيار المجلس عندهم يكون في ابتداء العقد وبعده واحداً، فخيار القبول مندرج تحت خيار المجلس‏.‏ ولا خيار للقبول عند المالكيّة والشّافعيّة، غير أنّه يجوز الرّجوع عند الشّافعيّة ولو بعد القبول، ما دام ذلك في المجلس، ولا يجوز الرّجوع عند المالكيّة ولو قبل الارتباط بينهما إلاّ في حالة واحدة، وهي أن يكون الإيجاب أو القبول بصيغة المضارع ثمّ يدّعي القابل أو الموجب أنّه ما أراد البيع فيحلف ويصدّق‏.‏

بم ينقطع اتّحاد المجلس

11 - ينقطع اتّحاد المجلس بالإعراض عن الإيجاب عند جميع الفقهاء، غير أنّهم اختلفوا في الأمور الّتي يحصل معها الإعراض، فالشّافعيّة جعلوا الاشتغال بأجنبيّ خارج عن العقد إبطالاً له، وكذلك السّكوت الطّويل بين الإيجاب والقبول، لكنّ اليسير لا يضرّ‏.‏ وجعل المالكيّة والحنابلة العرف هو الضّابط لذلك‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ ينقطع باختلاف المجلس، فلو قام أحدهما ولم يذهب بطل الإيجاب، إذ لا يبقى المجلس مع القيام‏.‏ وإن تبايعا وهما يسيران، ولو كانا على دابّة واحدة، لم يصحّ لاختلاف المجلس‏.‏ واختار غير واحد كالطّحاويّ وغيره أنّه إن أجاب على فور كلامه متّصلاً جاز‏.‏ وفي الخلاصة عن النّوازل إذا أجاب بعدما مشى خطوةً أو خطوتين جاز‏.‏ وكذلك يختلف المجلس بالاشتغال بالأكل وتغتفر اللّقمة الواحدة، ولو كان في يده كوز فشرب ثمّ أجاب جاز‏.‏ ولو ناما جالسين فلا يتبدّل المجلس، ولو مضطجعين أو أحدهما فهي فرقة‏.‏ وهذه الصّور الّتي تكلّم عنها الحنفيّة لم تغفلها كتب المذاهب الأخرى، غير أنّهم تكلّموا عنها أثناء الكلام عن المجلس لا في الكلام عن اتّحاد المجلس، لأنّه اصطلاح خاصّ بالحنفيّة، وموطن تفصيلها عند الكلام عن مجلس العقد‏.‏

12 - وغير البيع مثله في الجملة عند الحنفيّة، والحنابلة، والمالكيّة، غير أنّ المتتبّع لعقود المالكيّة يجد أنّ منهم من يشترط الفوريّة في الوكالة والنّكاح‏.‏ ولا تختلف أيضاً العقود اللاّزمة عن البيع عند الشّافعيّة في الفوريّة بين الإيجاب والقبول‏.‏ أمّا غير اللاّزمة فلا يضرّ التّراخي فيها بين الإيجاب والقبول‏.‏

ثانياً - التّقابض في الأموال الرّبويّة‏:‏

13 - إذا بيع ربويّ بمثله اشترط اتّحاد المجلس، وسواء اتّحد جنس المبيع أو اختلف، لما صحّ من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح‏:‏ مثلاً بمثل، سواءً بسواء، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»، وبيان الرّبويّ من غيره يذكره الفقهاء في الرّبا‏.‏

اتّحاد المجلس في السّلم

14 - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه يشترط تسليم رأس مال السّلم في مجلس العقد، إذ لو تأخّر لكان في معنى بيع الكالئ بالكالئ، ولخبر الصّحيحين‏:‏ «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»، ولأنّ السّلم عقد غرر فلا يضمّ إليه غرر آخر، ولأنّ السّلم مشتقّ من استلام رأس المال، أي تعجيله، وأسماء العقود المشتقّة من المعاني لا بدّ فيها من تحقّق تلك المعاني‏.‏ ولا يختلف مجلس السّلم عن مجلس البيع عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وعند الحنفيّة يخالف مجلس السّلم مجلس البيع، فمجلس البيع ينتهي بمجرّد ارتباط الإيجاب بالقبول، وتترتّب عليه الآثار‏.‏ أمّا السّلم فيعتريه الفسخ إن لم يتمّ قبض رأس المال في المجلس وبعد الإيجاب والقبول، لأنّه شرط بقاء على الصّحّة وليس شرط انعقاد‏.‏ وقال المالكيّة بتأخيره ثلاثة أيّام، لأنّ ما قارب الشّيء يأخذ حكمه، وإذا أخّره عن ثلاثة أيّام بغير شرط وهو نقد ففيه تردّد، منهم من يقول بالفساد، لأنّه ضارع الدّين بالدّين، ومنهم من يقول بالصّحّة، لأنّه تأخير بغير شرط، وهذا ما لم تبلغ الزّيادة إلى حلول المسلّم فيه، فإن أخّره إلى حلول أجل السّلم الّذي وقع عليه العقد فإنّه لا يختلف في فساده‏.‏ ولا يدخله خيار الشّرط عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، ويدخله خيار المجلس عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وقال المالكيّة بجواز الخيار في السّلم إن شرط ولم ينقد رأس المال في زمن الخيار، لأنّه لو نقد وتمّ السّلم لكان فسخ دين في دين، لإعطاء المسلّم إليه سلعةً موصوفةً لأجل عمّا ترتّب في ذمّته، وهو حقيقة فسخ الدّين بالدّين‏.‏

اتّحاد المجلس في عقد النّكاح‏:‏

15 - للعلماء في ارتباط الإيجاب بالقبول في عقد النّكاح مع اتّحاد المجلس ثلاثة آراء‏:‏ الأوّل‏:‏ اشتراط اتّحاد المجلس فلو اختلف المجلس لم ينعقد كما لو أوجب أحدهما فقام الآخر أو اشتغل بعمل آخر، ولا يشترط فيه الفور‏.‏ وهو مذهب الحنفيّة، وهو الصّحيح عند الحنابلة، وهو ما في المعيار عن الباجيّ من المالكيّة‏.‏ الثّاني‏:‏ اشتراط الفوريّة بين الإيجاب والقبول في المجلس الواحد، وهو قول المالكيّة عدا ما تقدّم عن الباجيّ، وهو قول الشّافعيّة، غير أنّهم اغتفروا فيه الفاصل اليسير‏.‏ وضبط القفّال الفاصل الكثير بأن يكون زمناً لو سكتا فيه لخرج الجواب عن كونه جواباً‏.‏ والأولى ضبطه بالعرف‏.‏ الثّالث‏:‏ صحّة العقد مع اختلاف المجلس، وهو رواية للحنابلة‏.‏ وعليها لا يبطل النّكاح مع التّفرّق‏.‏ وهذا كلّه عند اتّحاد المجلس الحقيقيّ، أمّا مع اتّحاد المجلس الحكميّ فلا يختلف الأمر عند الحنفيّة في اشتراط القبول في مجلس العلم، وهو الصّحيح عند الحنابلة‏.‏ واشترط المالكيّة الفوريّة في الإيجاب حين العلم‏.‏ والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه لا ينعقد النّكاح بالكتابة‏.‏ وكذلك إن كان الزّوج غائباً وبلغه الإيجاب من وليّ الزّوجة‏.‏ وإذا صحّحنا في المسألتين فيشترط القبول في مجلس بلوغ الخبر وعلى الفور‏.‏

تداخل الفدية في الإحرام مع اتّحاد المجلس‏:‏

16 - لا يحصل التّداخل في المحظورات مع اتّحاد المجلس إلاّ إن اتّحد النّوع، وأمّا مع اختلاف النّوع والجنس في المحظورات فلا اعتبار لاتّحاد المجلس، وإنّما العبرة حينئذ باتّحاد السّبب‏.‏ واتّحاد المجلس له أثره في تداخل فدية محظورات الإحرام غير فدية الإتلاف فإنّها تتعدّد بتعدّد المتلف، وذهب ابن عبّاس إلى أنّه لا جزاء على العائد سواء أكان المحظور إتلافاً أم غيره‏.‏ والتّداخل مع اتّحاد المجلس يختلف في فدية الجماع عنه في بقيّة محظورات النّوع الواحد‏.‏

تداخل فدية غير الجماع‏:‏

17 - لو تطيّب المحرم بأنواع الطّيب، أو لبس أنواعاً كالقميص والعمامة والسّراويل والخفّ، أو نوعاً واحداً مرّةً بعد أخرى، فإن كان ذلك في مكان واحد وعلى التّوالي ففيه فدية واحدة لاتّحاد المجلس‏.‏ والحنفيّة، غير محمّد بن الحسن، والشّافعيّة على الأصحّ عندهم، وابن أبي موسى من الحنابلة، على أنّه لو حدث ما ذكر في مكانين تعدّدت الفدية‏.‏ والمذهب عند الحنابلة وعليه الأصحاب أنّ عليه فديةً واحدةً إن لم يكفّر عن الأوّل، لأنّ الحكم يختلف باختلاف الأسباب لا باختلاف الأوقات والأجناس‏.‏ وهو قول محمّد بن الحسن من الحنفيّة، وقول للشّافعيّة، وهو قول المالكيّة إن نوى التّكرار‏.‏ تداخل فدية الجماع في الإحرام‏:‏

18 - للفقهاء في تعدّد الفدية وتداخلها بتكرّر الجماع من المحرم ثلاثة آراء‏:‏ أ - اتّحاد الفدية إن اتّحد المجلس، وهو قول الحنفيّة‏.‏ والمذهب عند الحنابلة على هذا إن لم يكفّر عن الأوّل‏.‏ ويكفّر عن الأخير إن كان كفّر للسّابق‏.‏

ب - اتّحاد الفدية مطلقاً سواء اتّحد المجلس أو اختلف، لأنّ الحكم للوطء الأوّل، وهو قول المالكيّة‏.‏

ج - تكرّر الفدية بتكرّر الجماع، لأنّه سبب للكفّارة، فأوجبها، وهو قول الشّافعيّة، ورواية عن أحمد‏.‏

اتّحاد المجلس في الخلع‏:‏

19 - المذاهب الأربعة على أنّ الزّوج لو خالع امرأته فإنّ القبول يقتصر على المجلس، غير أنّ العبرة عند الحنفيّة بمجلس الزّوجة إن لم يشترطا الخيار فيه، وما لم تبدأ الزّوجة به، ولا يصحّ رجوع الزّوج ولو قبل قبولها، ويصحّ رجوعها ما لم يقبل إن كانت هي البادئة‏.‏ والعبرة عند بقيّة الفقهاء بمجلس المتخالعين معاً، وهو قول الحنفيّة إن كانت الزّوجة هي الموجبة، وكذلك إن اشترطا الخيار فيه، والفور والتّراخي في الإيجاب والقبول كالبيع عندهم‏.‏ وهذا كلّه عند عدم التّعليق‏.‏ ولا يشترط القبول في المجلس في صيغة التّعليق إلاّ عند ابن عبد السّلام من المالكيّة، وكذلك إن كانت الزّوجة هي البادئة عند الشّافعيّة والحنابلة نظراً للمعاوضة‏.‏ وإنّما يكون القبول في صيغة التّعليق عند حصول ما علّق عليه‏.‏ ومجلس العلم كمجلس التّواجب في الخلع عند الحنفيّة والشّافعيّة، وهو ما يفهم من المالكيّة والحنابلة، فلم يصرّحوا بذلك، لكنّهم ذكروا أنّ صيغة الخلع كصيغة البيع، وفي كلامهم عن الخلع مع غيبة الزّوجة لم يأتوا بجديد يخالف حضور الزّوجة، ولم يخصّوا الوكيل بجديد كذلك‏.‏

اتّحاد مجلس المخيّرة‏:‏

20 - المخيّرة هي الّتي ملّكها زوجها طلاقها بقوله لها مثلاً‏:‏ اختاري نفسك‏.‏ ومذهب الحنفيّة، ورواية عن مالك، أنّه لو خيّر امرأته أو جعل أمرها بيدها، فلها أن تختار ما دامت في مجلسها - قال الحنفيّة‏:‏ ولو طال يوماً أو أكثر - فلو قامت أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر من يدها لأنّه دليل الإعراض والتّخيير يبطل بصريح الإعراض فكذلك بما يدلّ عليه، غير أنّ العبرة عند الحنفيّة بمجلس الزّوجة لا بمجلس الزّوج، لأنّه تمليك، والعبرة عند المالكيّة بمجلسهما معاً‏.‏ والشّافعيّة - على الأصحّ - والحنابلة يشترطون الفوريّة في المجلس والاعتداد بمجلسهما معاً فلو قام أحدهما بطل خيارها‏.‏ روى النّجّاد بإسناده عن سعيد بن المسيّب أنّه قال‏:‏ قضى عمر وعثمان في الرّجل يخيّر امرأته أنّ لها الخيار ما لم يتفرّقا‏.‏ وجعل المالكيّة في الرّواية الثّانية الخيار لها خارج المجلس ما لم تقف أمام حاكم أو توطأ طائعةً‏.‏ وهو قول الزّهريّ وقتادة وأبي عبيد وابن المنذر‏.‏ واحتجّ ابن المنذر بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعائشة لمّا خيّرها‏:‏ «إنّي ذاكر لك أمراً، فلا عليك ألا تعجّلي حتّى تستأمري أبويك»، وهذا يمنع قصره على المجلس‏.‏ وما تقدّم هو في الحاضرة، فإن كانت المخيّرة غائبةً فلا يختلف الحال عند الحنفيّة‏.‏ ويفهم من عبارات الشّافعيّة كذلك عدم الاختلاف بين الغائبة والحاضرة، فالخلع - على الأصحّ - طلاق، ومجلس العلم فيه كمجلس التّواجب‏.‏ وكما يجرى الخلاف في المخيّرة الحاضرة عند المالكيّة يجرى أيضاً في المخيّرة الغائبة على طريقة اللّخميّ‏.‏ وطريقة ابن رشد أنّه يبقى التّخيير في يدها ما لم يطل أكثر من شهرين، كما في التّوضيح، حتّى يتبيّن رضاها بالإسقاط، وما لم توقف أمام حاكم، أو توطأ طائعةً‏.‏ واختلاف المجلس في المخيّرة كاختلافه في البيع‏.‏

تكرار الطّلاق في المجلس الواحد‏:‏

21 - لو قال لمدخول بها ومن في حكمها‏:‏ أنت طالق أنت طالق أنت طالق، في مجلس واحد، ونوى تكرار الوقوع، فإنّه يقع ثلاثاً عند الأئمّة الأربعة، ولا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره‏.‏ وهو قول ابن حزم‏.‏ لما روى عن محمود بن لبيد، قال‏:‏ «أخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فغضب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ قال‏:‏ أيلعب بكتاب اللّه عزّ وجلّ وأنا بين أظهركم ‏؟‏ حتّى قام رجل، فقال‏:‏ يا رسول اللّه ألا أقتله ‏؟‏»‏.‏ وعند بعض أهل الظّاهر تقع طلقةً واحدةً‏.‏ وهو قول ابن عبّاس، وبه قال إسحاق وطاوس وعكرمة، لما في صحيح مسلم أنّ ابن عبّاس قال‏:‏ «كان الطّلاق على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثّلاث واحدةً، فقال عمر‏:‏ إنّ النّاس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم»‏.‏ وإن أراد التّأكيد أو الإفهام فإنّه تقع واحدةً‏.‏ وتقبل نيّة التّأكيد ديانةً لا قضاءً عند الحنفيّة، والشّافعيّة، وتقبل قضاءً وإفتاءً عند المالكيّة والحنابلة‏.‏ وإن أطلق فيقع ثلاثاً عند الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، وهو الأظهر عند الشّافعيّة، لأنّ الأصل عدم التّأكيد‏.‏ والقول الثّاني عند الشّافعيّة أنّه تقع طلقةً واحدةً، لأنّ التّأكيد محتمل، فيؤخذ باليقين‏.‏ وهو قول ابن حزم‏.‏ ومثل أنت طالق أنت طالق أنت طالق قوله أنت طالق طالق طالق عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، وكذلك الحنابلة في وقوع الطّلاق وتعدّده عند نيّته، وفي إرادة التّأكيد والإفهام‏.‏ أمّا عند الإطلاق فإنّه يقع الطّلاق ثلاثاً في الأولى، وتقع واحدةً في الثّانية‏.‏

الفصل بين الطّلاق وعدده‏:‏

22 - لا تضرّ سكتة التّنفّس، والعيّ، في الاتّصال بين الطّلاق وعدده‏.‏ فإن كان السّكوت فوق ذلك فإنّه يضرّ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، ولا تقع معه نيّة التّأكيد‏.‏ وهو قول للمالكيّة‏.‏ والقول الثّاني أنّه لا يضرّ إلاّ في غير المدخول بها‏.‏ وفي المدخول بها يحصل التّأكيد بدون نسق ‏(‏أي عطفه بالفاء أو بالواو أو ثمّ‏)‏‏.‏

تكرار طلاق غير المدخول بها‏:‏

23 - للعلماء في تكرير الطّلاق لغير مدخول بها في مجلس واحد ثلاثة آراء‏:‏ أ - الأوّل‏.‏ وقوع الطّلاق واحدةً اتّحد المجلس أم تعدّد‏.‏ وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة وابن حزم، لأنّها بانت بالأولى وصارت أجنبيّةً عنه، وطلاق الأجنبيّة باطل‏.‏ الثّاني‏:‏ وقوع الطّلاق ثلاثاً إن نسّقه وهو قول المالكيّة والحنابلة، فإن فرّق بين كلامه فهي طلقة واحدة‏.‏ الثّالث‏:‏ وقوع الطّلاق ثلاثاً إن كان في مجلس واحد، فإن كان في مجالس شتّى وقع ما كان في المجلس الأوّل فقط‏.‏ وهو مرويّ عن إبراهيم النّخعيّ‏.‏ استدلّ أصحاب الرّأي الأوّل بما روي من طريق سعيد بن منصور عن عتّاب بن بشير عن خصيف عن زياد بن أبي مريم عن ابن مسعود فيمن طلّق امرأته ثلاثاً ولم يكن دخل بها، قال‏:‏ هي ثلاث، فإن طلّقها واحدةً، ثمّ ثنّى، ثمّ ثلّث لم يقع عليها، لأنّها قد بانت بالأولى‏.‏ وصحّ هذا عن خلاس وإبراهيم النّخعيّ في أحد أقواله وطاوس والشّعبيّ وعكرمة وأبي بكر عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام وحمّاد بن أبي سليمان‏.‏ ودليل الثّاني ما روي من طريق سعيد بن منصور قال‏:‏ حدّثنا هشيم حدّثنا المغيرة عن إبراهيم النّخعيّ فيمن قال لغير المدخول بها‏:‏ أنت طالق أنت طالق أنت طالق، وقالها متّصلةً، لم تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره‏.‏ فإن قال‏:‏ أنت طالق، ثمّ سكت، ثمّ قال‏.‏ أنت طالق، ثمّ سكت ثمّ قال‏:‏ أنت طالق بانت بالأولى ولم تكن الأخريان شيئاً، ومثله عن عبد اللّه بن مغفّل المزنيّ وهو قول الأوزاعيّ واللّيث‏.‏ ودليل القول الثّالث ما روي من طريق الحجّاج بن المنهال قال‏:‏ حدّثنا عبد العزيز بن عبد الصّمد، قال‏:‏ قال لي منصور‏:‏ حدّثت عن إبراهيم النّخعيّ أنّه كان يقول‏:‏ إذا قال للّتي لم يدخل بها، في مجلس واحد‏:‏ أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فلا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره‏.‏ فإن قام من مجلسه ذلك بعد أن طلّق طلقةً واحدةً، ثمّ طلّق بعد ذلك، فليس بشيء‏.‏

تكرار الطّلاق مع العطف‏:‏

24 - التّكرار مع العطف كعدمه عند الحنفيّة، في تعدّد الطّلاق، وفي نيّة التّأكيد والإفهام، فلا فرق بين قوله‏:‏ أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وبين قوله‏:‏ أنت طالق، وأنت طالق، وأنت طالق، ولا فرق بين العطف بالواو والفاء وثمّ‏.‏ وهو قول الشّافعيّة إن كان العطف بالواو، ولا تقبل نيّة التّوكيد مع الفاء وثمّ، وفي بعض كتبهم ما يفيد أنّ التّأكيد بثمّ كالتّأكيد بالواو، كما في العباب‏.‏ ولا تقبل نيّة التّأكيد مع العطف عند المالكيّة، والحنابلة، لأنّ العطف يقتضي المغايرة، ولا يتأتّى معها التّأكيد، وهو قول الشّافعيّة إن كان العطف بالفاء وثمّ‏.‏

تكرّر الإيلاء في المجلس الواحد‏:‏

25 - الحنفيّة على أنّه لو كرّر يمين الإيلاء في مجلس واحد، ونوى التّأكيد، فإنّه يكون إيلاءً واحداً ويميناً واحدةً، حتّى لو لم يقربها في المدّة طلقت طلقةً واحدةً، وإن قرّبها فيها لزمته كفّارة واحدة‏.‏ وإن لم ينو التّأكيد، أو أطلق، فاليمين واحدة، والإيلاء ثلاث‏.‏ وعند الشّافعيّة لا يتكرّر الإيلاء إن نوى التّأكيد‏.‏ وسواء أكان ذلك في مجلس واحد، أم في مجالس، فإن أطلق فاليمين واحدة إن اتّحد المجلس‏.‏ ولم يتكلّم الحنابلة عن اتّحاد المجلس في الإيلاء‏.‏ ولم أقف على نصّ للمالكيّة في تكرار الإيلاء، غير أنّهم يعتبرونه يميناً‏.‏ والكفّارة عندهم لا تتكرّر بتكرّر اليمين ما لم ينو التّكرار‏.‏

اتّحاد المجلس في الظّهار‏:‏

26 - ليس لاتّحاد المجلس أثر إلاّ عند الحنفيّة، وفي حالة واحدة، وهي ما إذا كرّر الظّهار في مجلس واحد، وأراد التّأكيد، فإنّه يصدّق قضاءً، ولا تتكرّر الكفّارة، ولكنّها تتعدّد إن كرّره في مجالس‏.‏ وكذلك إن كان في مجلس واحد ونوى التّكرار، أو أطلق‏.‏ ولا تتعدّد الكفّارة بتكرار الظّهار عند المالكيّة والشّافعيّة ما لم ينو الاستئناف‏.‏ وسواء أكان ذلك في مجلس واحد أم في مجالس‏.‏ وقال الحنابلة أيضاً بعدم التّعدّد بتكرار الظّهار، ولو نوى الاستئناف، لأنّ تكريره لا يؤثّر في تحريم الزّوجة، لتحريمها بالقول الأوّل‏.‏ وقاسوه على اليمين باللّه تعالى‏.‏

اتّزار

انظر‏:‏ ايتزار‏.‏

اتّصال

التّعريف

1 - الاتّصال عند أهل اللّغة‏:‏ عدم الانقطاع، وهو ضدّ الانفصال والفرق بين لفظي اتّصال وموالاة‏:‏ أنّ الاتّصال هو أن يوجد بين شيئين لقاء ومماسّة، أمّا الموالاة، فلا يشترط لقاء ولا مماسّة بين الشّيئين بل أن يكون بينهما تتابع‏.‏ ويستعمل الفقهاء الاتّصال في الأعيان، وفي المعاني‏.‏ ففي الاتّصال في الأعيان يقولون‏:‏ اتّصال الصّفوف في صلاة الجماعة، والزّوائد المتّصلة بالمعقود عليه كالسّمن والصّبغ‏.‏ وفي الاتّصال في المعاني يقولون‏:‏ اتّصال الإيجاب بالقبول، ونحو ذلك‏.‏ والفرق بين لفظي اتّصال ووصل أنّ الاتّصال هو الأثر للوصل‏.‏

الحكم العامّ

2 - من استقراء كلام الفقهاء يتبيّن أنّ ما اتّصل من الزّوائد بالأصل اتّصال قرار شمله حكم واحد في الجملة‏.‏ فالزّوائد المتّصلة تدخل في المبيع تبعاً، وكذا ما اتّصل اتّصال قرار عند كثير من الفقهاء‏.‏ ‏(‏كما ذكر الفقهاء ذلك في البيع‏)‏ ولا يجوز إفرادها بالرّهن ‏(‏كما نصّوا على ذلك في كتاب الرّهن‏)‏ كما يرى الفقهاء أنّ معاني الألفاظ غير المتّصلة لا تلحق الأصل‏.‏ ومن هنا وجب الاتّصال في الاستثناء والشّرط والتّعليق والنّيّة في كنايات الطّلاق، وفي العبادات‏.‏ وفي بعض هذه خلاف‏.‏ وتفصيل ذلك عند الفقهاء في أبواب الإقرار والبيع والطّلاق والأيمان والصّلاة‏.‏

الحكم العامّ للوصل‏:‏

3 - لمّا كانت الصّلة وثيقةً بين الاتّصال والوصل ناسب بيان الحكم التّكليفيّ للوصل، فقد يكون واجباً، كوصل القبض بالعقد في الصّرف، وقد يكون جائزاً كوصل الاستعاذة بالبسملة بأوّل السّورة، وقد يكون ممنوعاً كأن يوصل بالعبادات ما ليس منها‏.‏ وقد ذكر الفقهاء ذلك في أبواب الصّلاة، والأذان، والحظر والإباحة، ووصل البسملة بآخر السّورة كما يفصّل في التّجويد، ووصل الصّيام بالصّيام من غير إفطار، وهو ‏(‏صيام الوصال‏)‏، وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الصّيام عند كلامهم على ما يكره من الصّيام‏.‏

اتّكاء

التّعريف

1 - من معاني الاتّكاء في اللّغة‏:‏ الاعتماد على شيء، ومنه قوله تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏هي عصاي أتوكّأ عليها‏}‏ ومن معانيه أيضاً‏:‏ الميل في القعود على أحد الشّقّين‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنيين المذكورين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - الاستناد‏:‏ في اللّغة يأتي بمعنى الاتّكاء بالظّهر لا غير فيكون بينه وبين الاتّكاء بالمعنى اللّغويّ الأوّل عموم وخصوص مطلق‏.‏ وأمّا بالمعنى الثّاني فبينهما تباين‏.‏

الحكم الإجماليّ

3 - يختلف الحكم تبعاً للاستعمالات الفقهيّة، فالاتّكاء في الصّلاة مطلقاً اتّفق الفقهاء على جوازه، بمعنييه، لأهل الأعذار‏.‏ أمّا لغير أهل الأعذار فهو مكروه في الفريضة، ويجوز في النّافلة‏.‏ والاتّكاء على القبر كالجلوس عليه، واختلفوا في حكمه، فالجمهور على أنّه مكروه‏.‏ وخالف في ذلك المالكيّة فقالوا بجوازه‏.‏

مواطن البحث

4 - يفصّل الفقهاء أحكام الاتّكاء في الصّلاة عند الحديث عن مكروهات الصّلاة، ويفصّلون حكم الاتّكاء على القبر في الجنائز عند الحديث عن دفن الميّت‏.‏ وحكم الاتّكاء في قضاء الحاجة في أبواب الطّهارة، عند الحديث عن آداب قضاء الحاجة، وحكم الاتّكاء عند الأكل في أبواب الحظر والإباحة، وحكم الاتّكاء في المسجد لغير ضرورة في إحياء الموات عند الحديث عن المساجد، وحكم الاتّكاء على شيء فيه صورة حيوان كالمخدّة وغيرها في أبواب النّكاح عند الحديث عن الوليمة‏.‏

إتلاف

1 - جاء في القاموس‏:‏ تلف كفرح‏:‏ هلك، وأتلفه‏:‏ أفناه‏.‏ ويقرب من هذا المعنى اللّغويّ استعمالات الفقهاء‏.‏ يقول الكاسانيّ‏:‏ إتلاف الشّيء إخراجه من أن يكون منتفعاً به منفعةً مطلوبةً منه عادةً‏.‏

2 - الألفاظ ذات الصّلة

أ - ‏(‏الإهلاك‏)‏‏:‏ قد يقع الإهلاك والإتلاف بمعنًى واحد‏.‏ ففي مفردات الرّاغب‏:‏ الهلاك على ثلاثة أوجه‏:‏ افتقاد الشّيء عنك وهو عند غيرك موجود، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هلك عنّي سلطانيه‏}‏ وهلاك الشّيء باستحالة وفساد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويهلك الحرث والنّسل‏}‏ وكقولك‏:‏ هلك الطّعام‏.‏ وهلك‏:‏ بمعنى مات، كقوله‏:‏ ‏{‏إن امرؤ هلك‏}‏ وبمعنى بطلان الشّيء من العالم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلّ شيء هالك إلاّ وجهه‏}‏‏.‏

ب - ‏(‏التّلف‏)‏‏:‏ وهو أعمّ من الإتلاف، لأنّه كما يكون نتيجة إتلاف الغير، فإنّه قد يكون نتيجة آفة سماويّة‏.‏ ويفهم من كلام القليوبيّ إدخال الإتلاف في عموم التّلف، إذ قال‏:‏ إنّ العاريّة تضمن إن تلفت لا باستعمال مأذون فيه، ولو بإتلاف المالك‏.‏

ج - ‏(‏التّعدّي‏)‏‏:‏ جاء في لسان العرب‏:‏ تعدّى الحقّ‏:‏ جاوزه، واعتدى فلان عن الحقّ أي جاز عنه إلى الظّلم‏.‏ وقد يكون من صور الإتلاف ما هو جور واعتداء‏.‏

د - ‏(‏الإفساد‏)‏‏:‏ جاء في القاموس‏:‏ أفسده أخرجه عن صلاحيته المطلوبة‏.‏ وهو بهذا المعنى يكون مرادفاً للإتلاف‏.‏

هـ - ‏(‏الجناية‏)‏‏:‏ يقال جنى جنايةً، أي أذنب ذنباً يؤاخذ به‏.‏ وإن كانت الجناية في استعمال الفقهاء غلبت على الجرح والقطع‏.‏ والصّلة بين اللّفظين هي تحقّق المؤاخذة في بعض صور الإتلاف، كما تتحقّق في الجناية‏.‏

و - ‏(‏الإضرار‏)‏‏:‏ إيقاع الضّرر بالغير، وقد يراد منه أيّ نقص يدخل على الأعيان‏.‏ وقد يتحقّق هذا في بعض صور الإتلاف‏.‏

ز - ‏(‏الغصب‏)‏‏:‏ وهو أخذ مال متقوّم محترم بغير إذن المالك على سبيل المجاهرة، وعلى وجه يزيل يده أو يقصّر يده‏.‏ فالقدر المشترك بين الإتلاف والغصب تفويت المنفعة على المالك‏.‏ ويختلفان في أنّ الغصب لا يتحقّق إلاّ بزوال يده أو تقصير يده‏.‏ أمّا الإتلاف فقد يتحقّق مع بقاء اليد‏.‏ كما يختلفان في الآثار من حيث المشروعيّة وترتّب الضّمان‏.‏

صفة الإتلاف حكمه التّكليفيّ

3 - الأصل في الإتلاف‏:‏ الحظر، إذا كان غير مأذون فيه شرعاً، كإتلاف المالك ماله المنتفع به شرعاً وطبعاً‏.‏ وقد يكون الإتلاف واجباً إذا كان مأموراً من الشّارع بإتلافه كإتلاف خنزير لمسلم، وقد يكون مباحاً كإتلاف ما استغنى عنه مالكه ولم يجد وجهاً لانتفاعه هو أو غيره به‏.‏ ويترتّب على الحظر حكمه الأخرويّ وهو الإثم هذا، ولا تلازم بين الإثم والضّمان، فقد يجتمعان، وقد ينفرد كلّ منهما عن الآخر، وسيأتي تفصيل الكلام عن الضّمان في موطنه‏.‏

أنواع الإتلاف

4 - الإتلاف نوعان، لأنّه إمّا أن يقع على العين، أو على المنفعة‏.‏ وعلى كلّ فإمّا أن يكون إتلافاً للكلّ أو للجزء، سواء في العين أو المنفعة‏.‏ وهذان النّوعان الإتلاف فيهما حقيقيّ‏.‏ وقد يكون الإتلاف معنويّاً، ومن ذلك منع تسليم العين المستعارة للمعير بعد طلبها منه، أو بعد انقضاء مدّة الإعارة‏.‏ يقول الكاسانيّ‏:‏ إنّ الّذي يغيّر حال المستعار من الأمانة إلى الضّمان هو المغيّر لحال الوديعة، وهو الإتلاف حقيقةً أو معنًى بالمنع بعد الطّلب، أو بعد انقضاء المدّة، وبترك الحفظ، وبالخلاف، أي استعمال العين والانتفاع بها في غير ما أذن فيه صاحبها‏.‏ فقد اعتبر هذا إتلافاً من حيث المعنى وموجباً للضّمان، كما قال الفقهاء‏:‏ إنّ خلط الودائع خلطاً يمنع التّمييز بينها يعتبر إتلافاً من حيث المعنى، وكذا بالنّسبة لخلط الدّراهم المغصوبة‏.‏

الإتلاف المشروع وغير المشروع

أوّلاً - الإتلاف المشروع المتّفق على مشروعيّته‏:‏

5 - من صور الإتلاف المشروع مع ترتّب حقّ للغير ما قالوه من أنّ الإجارة لا تنعقد على إتلاف العين ذاتها إلاّ إذا كانت المنافع ممّا يقتضي استيفاؤها إتلاف العين، كالشّمعة للإضاءة، والظّئر للإرضاع، واستئجار الشّجر للثّمر، على التّفصيل والخلاف المبيّن في مصطلح إجارة‏.‏ ففي هذه الصّور إتلاف للعين باستهلاكها، وهو إتلاف مشروع ترتّب عليه حقّ للغير‏.‏

6 - ومن ذلك أيضاً إتلاف مال الغير عن طريق أكله دون إذن منه في حال المخمصة، فإنّه إتلاف مرخّص فيه من الشّارع، إلاّ أنّه يلزمه الضّمان عند الحنفيّة، والأظهر عند المالكيّة ومذهب الشّافعيّة والحنابلة، إذ التّناول حال المخمصة رخصة لا إباحة مطلقة، وإذا استوفاه ضمنه كما يقول البزدويّ، ويقول ابن رجب‏:‏ من أتلف شيئاً لدفع الأذى عن نفسه ضمن، أمّا من أتلف شيئاً لدفع أذاه له لم يضمن‏.‏ لكنّ المالكيّة في غير الأظهر يسقطون عنه الضّمان أيضاً، لأنّ الدّفع كان واجباً على المالك، والواجب لا يؤخذ له عوض‏.‏

7 - ومن الإتلاف المشروع دون ترتّب حقّ للغير إتلاف الميتة والدّم وجلد الميتة وغير ذلك ممّا ليس بمال، ولو لذمّيّ، لعدم التّقوّم، بدليل أنّه لا يحلّ بيعه‏.‏

8 - ومنه أيضاً ما قاله الفقهاء فيما يقع في يد أمير الجيش من أموال أهل الحرب أنّه إذا لم يمكن نقله إلى دار الإسلام يجوز له إتلافه، فيذبح الحيوانات ثمّ يحرّقها، لأنّ ذبحها جائز لغرض صحيح، ولا غرض أصحّ من كسر شوكة الأعداء‏.‏ وأمّا إحراقها فلتنقطع منفعة الكفّار بها، كما يحرّق الأسلحة والأمتعة الّتي يتعذّر نقلها، وما لا يحترق يدفن في موضع لا يقف عليه الكفّار‏.‏ وهذا كلّه إذا لم يرج حصولها للمسلمين‏.‏

9 - ومنه إتلاف بناء أهل الحرب وشجرهم لحاجة القتال والظّفر بهم، أو لعدم رجاء حصولها لنا، والأصل في ذلك ما أخرجه الشّيخان «أنّه صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النّضير وحرّقه»‏.‏

10 - ومن ذلك ما قالوه في إتلاف كتب السّحر ونحوها ممّا لا ينتفع به‏.‏ وكيفيّة إتلافها أنّه يمحى منها اسم اللّه وملائكته ورسله ويحرّق الباقي‏.‏ ولا بأس بأن تلقى في ماء جار، أو تدفن كما هي‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ وكذا جميع الكتب إذا بليت وخرجت عن الانتفاع بها‏.‏ ونقل عميرة عن شرح المهذّب‏:‏ وكتب الكفر والسّحر ونحوها يحرم بيعها ويجب إتلافها‏.‏ ومن ذلك أيضاً ما قاله الفقهاء في دفع الصّائل من أنّ من صالت عليه بهيمة فلم تندفع إلاّ بالقتل فقتلها لم يضمن لأنّه إتلاف بدفع جائز وتفصيل ذلك وبيان الأقوال فيه موضعه مصطلح صيال

ثانياً‏:‏ إتلاف مشروع، وفي ترتّب الضّمان عليه خلاف‏:‏

11 - إتلاف الخمر والخنزير على المسلم لا يترتّب عليه الضّمان، سواء أكان المتلف مسلماً أم ذمّيّاً‏.‏ أمّا لو كانت الخمر مملوكةً لذمّيّ فإنّ الحنفيّة والمالكيّة يقولون بالضّمان‏.‏ ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّها لا تضمن، لانتفاء تقوّمها كسائر النّجاسات إلاّ إذا انفرد الذّمّيّون بمحلّة ولم يخالطهم مسلم فإنّها لا تراق عليهم لإقرارهم عليها‏.‏ واتّفق الفقهاء على أنّ الخمر إذا غصبت من مسلم وكانت محترمةً - وهي الّتي عصرت لا بقصد الخمريّة، وإنّما بقصد التّخليل ‏(‏صيرورتها خلّاً‏)‏ - فإنّها لا تراق أيضاً، وإنّما تردّ إليه، لأنّ له إمساكها لتصير خلّاً‏.‏

12 - ومن أتلف طبل الغزاة والصّيّادين والدّفّ الّذي يباح في العرس ضمن اتّفاقاً‏.‏ أمّا لو أتلف على إنسان آلةً من آلات اللّهو والفساد فإنّ الجمهور ‏(‏الصّاحبين من الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في مقابل الأصحّ عندهم‏)‏ يرون عدم الضّمان، لأنّها آلات لهو وفساد، فلم تكن متقوّمةً، كالخمر، ولأنّه لا يحلّ بيعها، فلم يضمنها كالميتة، ولما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» وقال‏:‏ «بعثت بمحق القينات والمعازف» كما أنّ منفعتها محرّمة، والمحرّم لا يقابل بشيء، مع وجوب إبطالها على القادر عليه‏.‏ ويرى الإمام أبو حنيفة - وهو ما يستفاد من كلام المالكيّة، والأصحّ عند الشّافعيّة - أنّه يضمن قيمتها غير مصنوعة، لأنّها كما تصلح للّهو والفساد فإنّها تصلح للانتفاع بها من وجه آخر، فكان مالاً متقوّماً من هذا الوجه‏.‏ ويستفاد من كلام المالكيّة في السّرقة أنّهم متّفقون مع أبي حنيفة في القول بالضّمان، إذ قالوا‏:‏ ولا قطع في سرقة آلة لهو كطنبور إلاّ إذا كان المتخلّف منه بعد الكسر تبلغ قيمته حدّ القطع فإنّه يقطع‏.‏ وهذا يفيد أنّ من أتلفه يضمن قيمته غير مصنوعة على ما قاله أبو حنيفة‏.‏ ويقول النّوويّ من الشّافعيّة‏:‏ الأصنام وآلات الملاهي لا يجب في إبطالها شيء، والأصحّ أنّها لا تكسر الكسر الفاحش، بل تفصل لتعود كما كانت قبل التّأليف‏.‏ فإن عجز المنكر عن رعاية هذا الحدّ في الإنكار لمنع صاحب المنكر أبطله كيف تيسّر‏.‏ وعلّق الرّمليّ على ذلك بقوله فإن أحرقها ولم يتعيّن الإحراق وسيلةً لإفسادها غرم قيمتها مكسورةً بالحدّ المشروع، لتموّل رضاضها - أي ما تبقّى منها - واحترامه‏.‏

13 - وبالنّسبة لآنية الذّهب والفضّة فإنّ من قال بجواز اقتنائها قال بالضّمان، أمّا من منع اقتناءها فإنّه لا يوجب ضمان الصّنعة، وضمن ما يتلفه من العين‏.‏ وفي رواية عن أحمد‏:‏ يضمن الصّنعة أيضاً، على ما هو مبيّن في مصطلح ‏(‏آنية‏)‏‏.‏ ثالثاً‏:‏ إتلاف مختلف في مشروعيّته‏:‏

14 - صرّحت بعض كتب الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه لو أذن الرّاهن للمرتهن في أكل زوائد الرّهن فلا ضمان عليه، لأنّه أتلفه بإذن المالك، ولا يسقط شيء من الدّين ويكون الإتلاف مشروعاً بناءً على الإذن‏.‏ وتفصيل ذلك موضعه ‏(‏الرّهن‏)‏‏.‏

15 - وهناك اتّجاه بأنّ هذا إتلاف غير مشروع برغم الإذن، وهو ما نقله صاحب الدّرّ من الحنفيّة عن التّهذيب من أنّه يكره للمرتهن أن ينتفع بالرّهن وإن أذن له الرّاهن، بل نقل عن محمّد بن أسلم عدم الحلّ لأنّه رباً‏.‏ لكن قال صاحب الدّرّ‏:‏ إنّ ذلك محمول على الكراهة‏.‏

16 - وهناك اتّجاه ثالث صرّح به الحنابلة وهو التّفريق بين الرّهن في دين القرض وغيره، إذ قالوا‏:‏ إذا كان الرّهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض جاز للمرتهن أن ينتفع بالمرهون بغير عوض بإذن الرّاهن، وقالوا‏:‏ إنّ ذلك مرويّ عن الحسن وابن سيرين وبه قال إسحاق‏.‏ وإن كان دين الرّهن من قرض لم يجز لأنّه يحصل قرضاً يجرّ منفعةً وذلك حرام‏.‏ وإذا كان المرهون له مئونةً، فينتفع بنمائه نظير مئونته بإذنه أو بغير إذنه‏.‏ ومذهب المالكيّة عدم مشروعيّة ذلك إلاّ في رهن المبيع، فإنّه يجوز في صورة ما إذا اشترط ذلك وكان بعوض، لأنّ السّلعة المبيعة بعضها في مقابلة ما يسمّى من الثّمن وبعضها في مقابلة المنفعة‏.‏ فالمنفعة لم تضع على الرّاهن‏.‏ ولا يجوز ذلك في القرض لأنّه يكون قرضاً جرّ نفعاً، ويمتنع التّطوّع بالمنفعة في القرض والبيع مطلقاً‏.‏ رابعاً‏:‏ إتلاف غير مشروع يوجب الجزاء حقّاً للّه‏:‏

17 - وذلك في حالتين‏:‏

1 - الصّيد في حالة الإحرام داخل الحرم أو خارجه‏.‏

2 - الصّيد في الحرم للمحلّ والمحرم‏.‏ كما يلحق بصيد الحرم نباته‏.‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏ إنّ المحرم إذا قتل صيداً فعليه الجزاء، لقوله تعالى ‏{‏لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمّداً فجزاء مثل ما قتل من النّعم‏}‏، ولحديث «أبي قتادة أنّه لمّا صاد الأتان الوحشيّة وأصحابه محرمون قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها»

18 - وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ حكم الدّلالة كحكم الصّيد، للحديث السّابق، لأنّ سؤال النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدلّ على تعلّق التّحريم بذلك أيضاً‏.‏ ولأنّه تفويت الأمن على الصّيد، إذ هو آمن بتوحّشه وتواريه، فصار كالإتلاف‏.‏ ويستوي في ذلك العامد والنّاسي لأنّه ضمان، وليس عقوبةً فلا يشترط فيه العمديّة‏.‏ أمّا المالكيّة والشّافعيّة فيخالفون في ترتّب الجزاء على الدّالّ، لأنّ وجوب الجزاء يعتمد الإتلاف، فأشبه غرامات الأموال‏.‏ يقول النّوويّ‏:‏ وإن أتلف من حرم عليه الاصطياد من محرم أو حلال صيداً ضمنه‏.‏ ويقول القليوبيّ وخرج بالإتلاف الإعانة ولو على ذبحه أو الدّلالة عليه ونحو ذلك‏.‏

19 - والجزاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف أن يقوّم الصّيد في المكان الّذي قتل فيه، أو في أقرب المواضع منه، ثمّ هو مخيّر في الفداء‏:‏ إن شاء ابتاع بالقيمة هدياً وذبحه إن بلغت القيمة هدياً، وإن شاء اشترى بها طعاماً وتصدّق به على المساكين‏.‏ ويرى محمّد بن الحسن أنّه يجب في الصّيد النّظير فيما له نظير، وما ليس له نظير تجب فيه القيمة عنده، وإذا وجبت القيمة كان قوله كقولهما‏.‏ وهذا أيضاً رواية عن أحمد، فجزاء الصّيد عنده ليس على التّخيير وإنّما هو على التّرتيب فيجب المثل أوّلاً، فإن لم يجد أطعم، فإن لم يجد صام‏.‏ وقد روي هذا عن ابن عبّاس والثّوريّ، ولأنّ هدي المتعة على التّرتيب، وهذا آكد منه، لأنّه بفعل محظور‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة في الفدية الواجبة في صيد الحرم الّذي له مثل‏:‏ يخيّر المتلف بين ذبح مثله والصّدقة به على مساكين الحرم، وبين أن يقوّم دراهم ويشتري بها طعاماً لهم‏.‏ وما ليس له مثل يتصدّق بقيمته طعاماً‏.‏ والعبرة عندهم في تقدير قيمته بالنّسبة للمكان بمحلّ الإتلاف، قياساً على كلّ متلف متقوّم، وبالنّسبة للزّمان يوم إرادة تقويمه بمكّة لأنّها محلّ ذبحه لو أريد‏.‏ وعند العدول إلى الطّعام‏:‏ الظّاهر أنّ العبرة بسعره في مكّة، وقيل العبرة في سعره بمحلّ الإتلاف‏.‏ وهو ما صرّح به الحنابلة فإنّ الجزاء هو مثل ما قتل من النّعم ولو قتله لمخمصة، وقالوا‏:‏ إنّ الجزاء يحكم به ذوا عدل من فقهاء المسلمين، ولقاتل الصّيد أن يختار إخراج المثل أو كفّارة طعام مساكين‏.‏

20 - كما يصرّح المالكيّة والشّافعيّة أيضاً بأنّه يحرم بالحرم والإحرام إتلاف أجزاء الصّيد، لأنّ ما ضمن جميعه بالبدل ضمن أجزاؤه كالآدميّ، وأنّه إذا كان بيد المحرم أو رفقته، ولم يرفع يده عنه حتّى مات، لزمه الجزاء‏.‏ وقد صرّح الحنابلة بذلك أيضاً‏.‏

21 - ولو أتلف المحرم الصّيد بأن ذبحه ثمّ أكله ضمنه للقتل دون الأكل عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، لأنّه صيد مضمون بالجزاء، فلم يضمن ثانياً، كما لو أتلفه بغير الأكل‏.‏ وقال عطاء وأبو حنيفة‏:‏ يضمنه للأكل أيضاً، لأنّه أكل من صيد محرّم عليه، فيضمنه‏.‏ وتفصيل كلّ ذلك في محظورات الإحرام، وجزاء صيد الحرم‏.‏

22 - وبالنّسبة لنبات الحرم قالوا‏:‏ إنّه يحظر قطع الأخضر من حشيش الحرم، وما نبت فيه من غير إنبات، إلاّ الإذخر اتّفاقاً، لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ اللّه تعالى حرّم مكّة، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر صيدها‏.‏ فقال العبّاس رضي الله عنه‏:‏ إلاّ الإذخر ‏؟‏ فقال‏:‏ إلاّ الإذخر» وقاسوا عليه ما يحتاج إليه للتّداوي‏.‏

23 - وقال جمهور الفقهاء غير المالكيّة‏:‏ إنّ الجزاء في إتلافه هو على ما قيل في صيد الحرم، لأنّه مثله في التّحريم، لكنّ المالكيّة لم يفرّقوا في الحظر بين الأخضر واليابس، كما أنّهم لم يرتّبوا جزاءً على قاطع ما حرم قطعه، لأنّه قدر زائد على التّحريم، يحتاج لدليل خاصّ‏.‏ وقالوا‏:‏ ليس فيه إلاّ الاستغفار‏.‏

24 - وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ من قطع حشيش الحرم، فنبت مكانه، لم يلزمه الضّمان قولاً واحداً، لأنّه يستخلف عادةً، فهو كسنّ الصّبيّ إذا قلعها فنبت مكانها مثلها، بخلاف غصن الشّجر‏.‏

25 - وقال الحنفيّة والحنابلة في وجه‏:‏ لا يجوز رعي حشيش الحرم، لأنّ ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه‏.‏ كالصّيد‏.‏ وقال الشّافعيّة، وهو الوجه الثّاني عند الحنابلة‏:‏ يجوز، لأنّ الهدي كان يدخل الحرم فيكثر فيه، ولم ينقل أنّها كانت تسدّ أفواهها، ولأنّ بهم حاجةً إلى ذلك‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏الإحرام‏)‏‏.‏

محلّ الإتلاف

26 - الإتلاف لا يخلو إمّا أن يرد على آدميّ، وإمّا أن يرد على غيره من الحيوانات والنّباتات والجمادات‏.‏ فإن ورد على آدميّ فحكمه في النّفس وما دونها موضع بيانه عند الكلام عن الجنايات، وإن ورد على غير آدميّ حيواناً كان أو نباتاً أو جماداً، فإن كان مالاً مباحاً ليس فيه ملك لأحد فلا يضمن بالإتلاف - مع ملاحظة ما قيل بالنّسبة لصيد الحرم ونباته - وكذا إذا كان مملوكاً لحربيّ فإنّه لا يضمن بالإتلاف‏.‏ وإن كان مالاً محترماً مملوكاً وجب الضّمان لأنّ الإتلاف اعتداء وإضرار‏.‏ وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ضرر ولا ضرار»، وقد تعذّر نفي الضّرر من حيث الصّورة فيجب نفيه من حيث المعنى بالضّمان، ليقوم الضّمان مقام المتلف، فينتفي الضّرر بالقدر الممكن‏.‏ ولهذا وجب الضّمان بالغصب، فبالإتلاف أولى، سواء وقع الإتلاف له صورةً ومعنًى بإخراجه عن كونه صالحاً للانتفاع، أو معنًى بإحداث معنًى فيه يمنع من الانتفاع به مع قيامه في نفسه حقيقةً، لأنّ كلّ ذلك اعتداء وإضرار‏.‏

طرق الإتلاف

27 - الإتلاف إمّا بالمباشرة وإمّا بالتّسبّب‏.‏ والتّسبّب يكون بالفعل في محلّ يفضي إلى تلف غيره عادةً‏.‏ وكلاهما يوجب الضّمان، لأنّ كلّ واحد منهما يقع اعتداءً وإضراراً أيضاً‏.‏ ويبيّن ذلك ابن رجب بقوله‏:‏ أسباب الضّمان ثلاثة، فذكر منها الإتلاف، ثمّ قال‏:‏ المراد بالإتلاف أن يباشر الإتلاف بسبب يقتضيه، كالقتل والإحراق، أو ينصبّ سبباً عدواناً فيحصل به الإتلاف، كأن يؤجّج ناراً في يوم ريح عاصف، فيتعدّى إلى إتلاف مال الغير، أو فتح قفصاً عن طائر فطار، لأنّه تسبّب إلى الإتلاف بما يقتضيه عادةً، وأطال في البيان والتّفريع‏.‏ والإتلاف بالمباشرة هو الأصل‏.‏ ومعظم صور الإتلاف من أمثلته‏.‏

الإتلاف بالتّسبّب‏:‏

28 - الإتلاف بالتّسبّب يترتّب عليه موجبه‏:‏ الضّمان في الماليّات، والجزاء في غيرها، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء‏.‏ ولكنّهم اختلفوا في تطبيق هذا المبدأ في بعض الفروع دون بعض، فمثلاً‏:‏ عند المالكيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن، وهو قول للشّافعيّة‏:‏ لو أنّ إنساناً فتح قفصاً فيه طائر، فطار أو ذهب عقب فتحه، والمباشرة إنّما حصلت ممّن لا يمكن إحالة الحكم عليه، لزمه الضّمان، كما لو نفّر الطّائر، أو أهاج الدّابّة، أو سلّط كلباً على صبيّ فقتله، لأنّ الطّائر ونحوه من طبعه النّفور، وإنّما يبقى بالمانع، فإذا أزيل المانع ذهب بطبعه، فكان ضمانه على من أزال المانع‏.‏ وكذلك بالنّسبة لمن شقّ زقّ إنسان فيه دهن مائع فسال وهلك‏.‏ أمّا إن فتح القفص، وحلّ الفرس، فبقيا واقفين، فجاء إنسان فنفّرهما فذهبا، فالضّمان على منفّرهما، لأنّ سببه أخصّ، فاختصّ به الضّمان، كالدّافع شخصاً إلى بئر مع الحافر للبئر، فالإتلاف ينسب للدّافع‏.‏ قال أبو حنيفة وأبو يوسف وهو قول للشّافعيّة لا يضمن من حلّ رباط الفرس، أو فتح قفص الطّائر، إلاّ أن يكون أهاجهما حتّى ذهبا، لأنّ مجرّد الفتح ليس بإتلاف مباشرة ولا تسبّباً ملجئاً، لأنّ الطّير مختار في الطّيران فكان الطّيران مضافاً إلى اختياره والفتح سبباً غير ملجئ فلا حكم له‏.‏ بخلاف شقّ الزّقّ، لأنّ المائع سيّال بطبعه بحيث لا يوجد منه الاستمساك عند عدم المانع إلاّ على نقض العادة، فكان الفتح تسبّباً للتّلف، فيجب الضّمان‏.‏ وكذا إذا حلّ رباط الدّابّة، أو فتح باب الإصطبل‏.‏ وقد ذكرت هذه الأمثلة لتكون دلالةً على اتّجاهات الفقهاء في تطبيق مبدإ التّسبّب‏.‏ وأطال الفقهاء في التّفريع وذكر الصّور في بابي الغصب والضّمان‏.‏

ما تتلفه الدّوابّ‏:‏

29 - إذا أتلفت الدّابّة زرعاً للغير، وكان ذلك ليلاً، ضمن صاحبها عند الجمهور، لأنّ فعلها منسوب إليه، وعليه تعهّدها وحفظها، ولأنّ نفع أكلها من الزّرع عائد عليه‏.‏ وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة أنّه لا يضمن‏.‏ لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «العجماء جرحها جبار» ولأنّها أفسدت وليست يده عليها فلم يلزمه الضّمان، كما لو كان الإتلاف نهاراً، أو أتلفت غير الزّرع‏.‏ واستدلّ الجمهور بما روى مالك «أنّ ناقةً للبراء دخلت حائط قوم، فأفسدت، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ على أهل الأموال حفظها بالنّهار، وما أفسدته باللّيل فهو مضمون عليهم»، ولأنّ العادة من أهل المواشي إرسالها في النّهار للرّعي وحفظها ليلاً، وعادة أهل الحوائط ‏(‏البساتين‏)‏ والزّروع حفظها نهاراً دون اللّيل، فإذا ذهبت ليلاً كان التّفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ‏.‏

30 - أمّا إذا أتلفت الزّرع نهاراً، وكانت وحدها، فلا ضمان عند الجمهور، إذ العادة الغالبة حفظ الزّرع نهاراً، فكان التّفريط من أهل الزّرع‏.‏ ونصّ الشّافعيّة على أنّ الحكم يتغيّر بتغيّر العادة‏.‏ وقيّد المالكيّة هذا الحكم بما إذا كانت الدّابّة لم تعرف بالاعتداء، وإلاّ ضمن لعدم حفظها بربطها ربطاً محكماً‏.‏

31 - وإذا أتلفت الدّابّة شيئاً غير الزّرع، وكان معها راع فيه كفاية الحفظ، أو معها من له يد عليها ولم يمنعها فإنّه يضمن اتّفاقاً ما أتلفته من زرع وغيره أمّا إذا كانت وحدها فقد ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا يضمن مالكها، لأنّها لا تتلف غير الزّرع عادةً، ولحديث «العجماء جبار» كما أنّه لو جمحت الدّابّة بالرّاكب، ولم يقدر على ردّها، فإنّه لا يضمن، كالمنفلتة، لأنّ الرّاكب حينئذ ليس بمسير لها، فلا يضاف سيرها إليه‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا ضمان إلاّ إذا كانت من شأنها الاعتداء، فإنّه يضمن حيث فرّط في حفظها‏.‏ أمّا الشّافعيّة فالمعتمد عندهم الضّمان‏.‏

32 - ما تقدّم كلّه خاصّ بما يمكن منعه من البهائم والدّوابّ، أمّا ما لا يمكن منعه، كالحمام والنّحل، فإنّه لا ضمان فيما أتلفه، لأنّه لا يدخل تحت اليد‏.‏ وقد أفتى البلقينيّ، من الشّافعيّة، في نحل قتل جملاً بأنّه هدر، لتقصير صاحبه دون صاحب النّحل‏.‏ وقد ذكر الفقهاء صوراً كثيرةً حول هذه المسألة‏.‏

33 - موجب الإتلاف الضّمان وذلك في إحدى حالتين‏:‏

1 - بإتلاف مال الغير المحترم شرعاً بغير إذن من الشّارع ومن صاحبه، وفي حكمه إتلاف الأموال العامّة من غير المباحات‏.‏

2 - إتلاف مال الغير المحترم شرعاً بإذن من الشّارع للضّرورة بغير رضا صاحب المال‏.‏ وقد ينحصر موجب الإتلاف في الإثم فقط، كما إذا أتلف لنفسه مالاً ينتفع به‏.‏

ما يشترط لضمان المتلفات‏:‏

34 - ذكر بعض الفقهاء شروطاً هذه خلاصتها‏:‏

1 - أن يكون الشّيء المتلف مالاً، فلا يجب الضّمان بإتلاف الميتة والدّم وجلد الميتة وغير ذلك ممّا ليس بمال‏.‏

2 - أن يكون متقوّماً، فلا يجب الضّمان بإتلاف الخمر والخنزير على المسلم، سواء كان المتلف مسلماً أو ذمّيّاً لسقوط تقوّم الخمر والخنزير في حقّ المسلم‏.‏

3 - أن يكون المتلف من أهل وجوب الضّمان عليه، فلو أتلفت بهيمة مال إنسان فإنّه لا يجب الضّمان، على التّفصيل السّابق ذكره‏.‏ ولو أتلف الصّبيّ والمجنون نفساً أو مالاً لزم الضّمان، لعدم توقّف ذلك على القصد، وإحياءً لحقّ المتلف عليه‏.‏ وضمان المال يكون في مالهما، أمّا ضمان النّفس فعلى العاقلة‏.‏ ونقل صاحب الدّرّ عن الأشباه‏:‏ الصّبيّ المحجور مؤاخذ بأفعاله، فيضمن ما أتلفه من المال للحال‏.‏ وإذا قتل فالدّية على عاقلته، إلاّ في مسائل مستثناة فإنّه يضمن فيها‏:‏ لو أتلف ما اقترضه، وما أودع عنده بلا إذن وليّه، وما أعير له، وما بيع منه بلا إذن‏.‏ وأطال ابن عابدين في التّعليق على بعض المستثنيات‏.‏

4 - أن يكون في الوجوب فائدة، فلا ضمان على المسلم بإتلاف مال الحربيّ، ولا على الحربيّ بإتلاف مال المسلم، في دار الحرب، ولا ضمان على مقاتلي البغاة إذا أتلفوا مالاً لهم، ولا على البغاة إذا أتلفوا في المعركة أموال مقاتل، لأنّه لا فائدة في الوجوب، لعدم إمكان الوصول إلى الضّمان، لانعدام الولاية، ولأنّهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالأموال أولى‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏"‏ البغاة ‏"‏

35 - والعصمة ليست بشرط لوجوب ضمان المال، لأنّ الصّبيّ مأخوذ بضمان الإتلاف، وإن لم تثبت عصمة المتلف في حقّه، كما أنّ العلم بكون المتلف مال الغير ليس بشرط لوجوب الضّمان، حتّى لو أتلف مالاً ظنّ أنّه ملكه، ثمّ تبيّن أنّه ملك غيره، ضمن، لأنّ الإتلاف أمر حقيقيّ لا يتوقّف وجوده على العلم‏.‏

كيفيّة التّضمين الواجب بالإتلاف‏:‏

36 - لا نعلم خلافاً في أنّ المتلف إن كان مثليّاً ضمن بمثله، وإن كان قيميّاً ضمن بقيمته‏.‏ كما لا نعلم خلافاً في أنّ تقدير القيمة يراعى فيه مكان الإتلاف‏.‏ وأمّا إذا فقد المثليّ، بأن لم يوجد في الأسواق فقد اتّفق الفقهاء كذلك على أنّه يعدل عن المثليّ إلى القيمة ولكنّهم اختلفوا في تقديرها‏.‏ أيراعى وقت الإتلاف، أم وقت انقطاعها عن الأسواق، أم وقت المطالبة، أم وقت الأداء ‏؟‏ فأبو حنيفة اعتبر يوم الحكم، والمالكيّة وأبو يوسف اعتبروا يوم الغصب إن كان مغصوباً، ويوم التّلف إن لم يكن مغصوباً، ومحمّد بن الحسن اعتبر يوم انقطاع المثل، لأنّه وقت الانتقال من القيمة إلى المثل‏.‏ وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فالأصحّ عندهم اعتبار أقصى ما بلغت قيمته ما بين التّلف والأداء ‏(‏التّنفيذ‏)‏‏.‏ وأمّا القيميّ فقد اتّفقوا على أنّه إذا لم تتغيّر قيمته من يوم إتلافه إلى يوم أدائه فالعبرة بقيمته، بالغةً ما بلغت‏.‏ أمّا إذا تغيّرت القيمة من يوم إتلافه إلى يوم أدائه فهو على الخلاف المشار إليه في حالة انقطاع المثليّ‏.‏

الإكراه على الإتلاف ومن عليه الضّمان‏:‏

37 - لو أكره شخص آخر إكراهاً ملجئاً على إتلاف مال محترم مملوك لغير المكره ‏(‏بكسر الرّاء‏)‏ فإنّ الضّمان يجب عليه عند كلّ من الحنفيّة والشّافعيّة ووجه عند الحنابلة، لأنّ ذلك من حيث إنّه إتلاف ينسب إلى الحامل على الفعل، لا إلى الفاعل، لأنّه كالآلة‏.‏ وللمستحقّ مطالبة المتلف، ويرجع به على المكره لأنّه معذور في ذلك الفعل، فلم يلزمه الضّمان‏.‏ والقول بأنّ الضّمان على المكره يفهم أيضاً ممّا نقله ابن فرحون المالكيّ عن فضل بن سلمة أنّ ابن الماجشون قال في السّلطان يأمر رجلاً بقتل رجل ظلماً‏:‏ إنّ السّلطان يقتل، ولا يقتل المأمور، إذ الإلزام بتضمين المال دون القود‏.‏

38 - والوجه الثّاني عند الحنابلة‏:‏ أنّ الضّمان عليهما كالدّية، لاشتراكهما في الإثم‏.‏ وفي قول عند المالكيّة - كما يؤخذ من كلام ابن فرحون - أنّ الضّمان على المكره - بالفتح - استناداً إلى حديث «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» يقول ابن فرحون‏:‏ إنّ من أمره الوالي بقتل رجل ظلماً، أو قطعه أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه، فلا يفعل شيئاً من ذلك، وإن علم أنّه إن عصاه وقع به في نفسه أو ظهره أو ماله فإن أطاعه وجب عليه القود والقطع والغرم، وغرم ثمن ما باع‏.‏ وتفصيل الكلام فيه موطنه بحث ‏(‏الإكراه‏)‏‏.‏

أثر الإتلاف في تحقّق القبض وإسقاط الأجرة‏:‏

39 - من المقرّر شرعاً أنّ المبيع قبل قبضه يكون في ضمان البائع، وأنّ إتلاف المشتري له وهو في يد البائع يعتبر قبضاً فيلزمه الثّمن، لأنّه لا يمكنه إتلافه إلاّ بعد إثبات يده عليه، وهو معنى القبض فيتقرّر عليه الثّمن‏.‏ وعلى هذا فإنّ الإتلاف يعتبر قبضاً وتترتّب عليه آثاره، فقد جاء في الشّرح الكبير على المقنع‏:‏ ما يحتاج إلى القبض إذا تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع‏.‏ فإن تلف بآفة سماويّة بطل العقد، ورجع المشتري بالثّمن، وإن أتلفه المشتري استقرّ عليه الثّمن، وكان كالقبض، لأنّه تصرّف فيه 40 - ومن صور الإتلاف في الهبة ما نصّوا عليه من أنّ القبض يتمّ في الهبة ولو بإتلاف الموهوب له العين الموهوبة بإذن الواهب‏.‏

41 - ومن صوره في المهر ما قالوه من أنّ الزّوجة الرّشيدة إن أتلفت صداقها إتلافاً يقتضي الضّمان - وهو في يد الزّوجة أو الوليّ - اعتبرت قابضةً لحقّها‏.‏ أمّا إتلاف غير الرّشيدة فلا يعتبر قبضاً‏.‏ وكذلك الإتلاف لدفع الصّيال، فلا يعتبر قبضاً‏.‏

42 - وقال الحنفيّة في الإجارة لو خاط الخيّاط ثوباً بأجر، ففتقه آخر قبل أن يقبضه ربّ الثّوب، فلا أجر للخيّاط، لأنّ الخياطة ممّا له أثر، فلا أجر قبل التّسليم‏.‏ وبالإتلاف تعذّر التّسليم‏.‏ وللخيّاط تضمين الفاتق ما نقصه الفتق، وأجر مثل الخياطة، ولا يجب الأجر المسمّى لأنّه إنّما لزم بالعقد ولا عقد بينه وبين الفاتق‏)‏ فوجب المصير إلى أجر المثل‏.‏

حدوث الاسترداد بالإتلاف

43 - إذا هلك المبيع كلّه بفعل البائع وهو في يده أو في يد المشتري الّذي قبضه بغير إذن البائع فإنّ البائع يعدّ مستردّاً للمبيع، وبطل البيع وسقط الثّمن عن المشتري‏.‏ وإذا هلك بعض المبيع بفعل البائع فإن كان قبل القبض بطل البيع بقدر الهالك، واعتبر مستردّاً هذا البعض، وسقط عن المشتري حصّة الهالك من الثّمن‏.‏ والمشتري بالخيار في الباقي لتفرّق الصّفقة‏.‏ وإن كان إتلاف البائع للمبيع بعد قبض المشتري له قبضاً صحيحاً، وبعد استيفاء الثّمن، لم يعتبر ذلك منه استرداداً، وإنّما إهلاكه وإهلاك الأجنبيّ سواء‏.‏ وإن كان المشتري قبضه بغير إذن البائع والثّمن حالّ غير مفقود، اعتبر ذلك الإهلاك من البائع استرداداً في القدر الّذي أتلفه، وسقط عن المشتري حصّته من الثّمن‏.‏ وتفصيل ذلك موضعه مصطلح ‏(‏استرداد‏)‏‏.‏

الإتلاف بالسّراية‏:‏

44 - ما يتلف بالسّراية إن كان بسبب مأذون فيه دون جهل أو تقصير فلا ضمان‏.‏ وعلى هذا فلا ضمان على طبيب، وبزّاغ ‏(‏بيطار‏)‏، وحجّام، وختّان، ما دام أذن لهم بهذا ولم يقصّروا، وإلاّ لزم الضّمان‏.‏ يقول ابن قدامة‏:‏ إذا فعل الحجّام والختّان والمتطبّب ما أمروا به لم يضمنوا، بشرطين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم، فإذا لم يكونوا كذلك كان فعلاً محرّماً، فيضمن سرايته‏.‏ الثّاني‏:‏ ألا يتجاوز ما ينبغي أن يقطع‏.‏ فإن كان حاذقاً وتجاوز، أو قطع في غير محلّ القطع، أو في وقت لا يصلح فيه القطع، وأشباه هذا، ضمن فيه كلّه، لأنّه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ، فأشبه إتلاف المال‏.‏ وكذلك الحكم في القاطع في القصاص، وقاطع يد السّارق‏.‏ ثمّ قال‏:‏ ولا نعلم فيه خلافاً‏.‏

الإتلاف نتيجة التّصادم‏:‏

45 - وفي الإتلاف بالتّصادم والتّجاذب تضمن عاقلة كلّ فارس أو راجل دية الآخر، إن اصطدما وماتا منه فوقعا على القفا وكانا غير عامدين‏.‏ أمّا لو وقعا على الوجه فيهدر دمهما‏.‏ ولو كانا عامدين فعلى كلّ نصف دية الآخر‏.‏

46 - ولو تجاذب رجلان حبلاً، فانقطع الحبل فسقطا على القفا وماتا، أهدر دمهما لموت كلّ بقوّة نفسه‏.‏ فإن وقعا على الوجه وجب دية كلّ واحد منهما على عاقلة الآخر لموته بقوّة صاحبه‏.‏ فإن تعاكسا فدية الواقع على الوجه على عاقلة الآخر، وأهدر دم من وقع على القفا‏.‏ وقال مالك في السّفينتين تصطدمان، فتغرق إحداهما بما فيها، فلا شيء في ذلك على أحد، لأنّ الرّيح تغلبهم، إلاّ أن يعلم النّواتيّة ‏(‏البحّارة‏)‏ أنّهم لو أرادوا صرفها لقدروا، فيضمنون‏.‏ وقال ابن شاس‏:‏ ولو تجاذبا الحبل، فانقطع، فتلفا، فكاصطدامهما، وإن وقع أحدهما على شيء، فأتلفه، ضمن‏.‏ وقال ابن قدامة‏:‏ وإن تصادم نفسان يمشيان، فماتا، فعلى عاقلة كلّ واحد منهما دية الآخر‏.‏ وإن كانتا امرأتين حبليين فهما كالرّجلين‏.‏ فإن أسقطت كلّ واحدة منهما جنيناً فعلى كلّ واحدة نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها‏.‏

إتلاف بعض المنقول لسلامة السّفينة‏:‏

47 - جمهور الفقهاء على أنّ ملاّح السّفينة إن كان أجيراً مشتركاً ضمن ما تلف بعمله إذا لم يكن صاحب المحمول حاضراً معه، على التّفصيل المبيّن في مصطلح ‏(‏إجارة‏)‏ أمّا إن خيف على السّفينة الغرق، فألقى بعض الرّكّاب متاعه، أو شيئاً منه، لتسلم السّفينة من الغرق، فلا ضمان على أحد، لأنّه أتلف متاع نفسه باختياره لصلاحه وصلاح غيره‏.‏ وإن ألقى متاع غيره بغير إذنه ضمنه وحده كأكل مضطرّ طعام غيره بغير إذنه‏.‏ وقد ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن اتّفقوا على إلقاء الأمتعة كلّها أو بعضها لحفظ الأنفس فقط فالغرم بعدد الرّءوس‏.‏ أمّا إذا قصدوا حفظ الأمتعة فقط، بأن كانت السّفينة في موضع لا تغرق فيه الأنفس، فالغرم بينهم على قدر الأموال‏.‏ وإن قصدوا حفظ الأنفس والأموال معاً فالغرم بينهم على قدرهما‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّه في حال طرح الأمتعة من السّفينة عند خوف غرقها يوزّع ما طرح على مال التّجارة فقط‏.‏

48 - ولا سبيل لطرح الآدميّ لإنقاذ السّفينة من الغرق، ذكراً كان أو أنثى، حرّاً أو عبداً، مسلماً أو كافراً، إذ الإجماع على أنّه لا يجوز إماتة أحد من الآدميّين لنجاة غيره‏.‏ وينقل الدّسوقيّ عن اللّخميّ أنّه أجاز ذلك بالقرعة‏.‏

49 - وقد اتّفق الفقهاء على أنّ ما يقع من تلف في الأنفس والأموال نتيجة العجز عن إنقاذه فلا ضمان فيه ولا قود، ومن أمثلته عدم التّحكّم في السّفينة للرّياح الشّديدة‏.‏ الظّاهر من تتبّع أقوال الفقهاء في ضمان الإتلاف النّاشئ عن التّأديب والتّعليم، سواء بالنّسبة للأب أو الوصيّ أو المعلّم أو الزّوج، التّفصيل بين مجاوزة الفعل المعتاد وعدم مجاوزته‏.‏ فالضّمان متّفق على وجوبه في حال مجاوزة الفعل المعتاد، بل بعض المذاهب يجعل فيه القصاص أو الدّية‏.‏ وأمّا إذا كان الفعل في التّأديب معتاداً ففيه خلاف بين الفقهاء، مجمله‏:‏ القول بالضّمان، لأنّ الجواز لا ينافي الضّمان‏.‏ والقول الآخر لهم - وهو المشهور والأصحّ في الجملة - أنّه لا ضمان، لأنّه مأذون به شرعاً وعادةً، ولو أوجب فيه الضّمان لوقع حرج على النّاس في تأديب من يوكّل إليهم تأديبه وفي هذه المسائل تفصيل موطنه مصطلح ‏(‏تأديب‏)‏‏.‏

إتلاف الأجير والمستأجر لما في يده‏:‏

50 - العين في يد المستأجر أمانة فلو هلكت دون تعدّ أو تفريط أو مخالفة للمأذون فيه فلا ضمان عليه وإلاّ ضمن‏.‏ والأجير الخاصّ أمين، فلا يضمن إلاّ بالتّعدّي أو التّفريط أو المخالفة، والأجير المشترك اختار الفقهاء القول بتضمينه إلاّ فيما لا يمكن تداركه على التّفصيل المبيّن في مصطلح ‏(‏الإجارة‏)‏‏.‏

إتلاف المغصوب‏:‏

51 - يد الغاصب يد ضمان اتّفاقاً، ويلزمه ردّ ما اغتصبه بعينه إن كان قائماً مثليّاً كان أو قيميّاً‏.‏ فإن أتلفه أو تلف بنفسه ضمنه، ووجب ردّ قيمته إن كان قيميّاً، ومثله إن كان مثليّاً، على التّفصيل السّابق في كيفيّة تضمين المتلفات‏.‏

52 - وإذا أتلف المغصوب شخص آخر وهو في يد الغاصب، فذهب الجمهور ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏)‏ إلى أنّ المالك مخيّر بين تضمين الغاصب وتضمين المتلف‏.‏ وذهب الشّافعيّ إلى أنّ الأصل تضمين المتلف، إلاّ إن كان الإتلاف لمصلحة الغاصب، كأن قال له‏:‏ اذبح هذه الشّاة لي، أو أفهمه أنّ المتلف ملك له‏.‏

إتلاف اللّقطة الوديعة والعاريّة‏:‏

53 - العين الملتقطة والمودعة والمعارة الأصل فيها أن تكون أمانةً في يد الملتقط والوديع والمستعير‏.‏ والأصل أنّ الأمين لا يضمن إلاّ بالاعتداء أو الإهمال لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس على المستعير غير المغلّ ضمان، ولا على المستودع غير المغلّ ضمان» ولأنّ بالنّاس حاجة إلى ذلك، فلو ضمناهم لامتنع النّاس عنه‏.‏ وعلى ذلك فإن حدث منه اعتداء ترتّب عليه إتلاف ضمن‏.‏ أمّا التّلف الّذي يقع دون اعتداء ولا إهمال أو تقصير فإنّه لا يترتّب عليه ضمان‏.‏ لكنّ الشّافعيّة قالوا‏:‏ إنّ الأصل في العاريّة أنّها مضمونة في يد المستعير، فلو تلفت بغير استعمال مأذون فيه ضمنها وإن لم يفرّط، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه»، وقالوا‏:‏ الأصحّ أنّه لا يضمن ما ينمحق من الثّياب أو ينسحق بالاستعمال‏.‏ وقيل بالضّمان فيهما‏.‏ وقيل يضمن المنمحق - أي البالي - دون المنسحق - أي التّالف بعض أجزائه -‏.‏

54 - وينبغي أن يلاحظ أنّ عاريّة الدّراهم والدّنانير والمكيل والموزون والمعدود يكون قرضاً في الحقيقة، إذ لا يمكن الانتفاع بها إلاّ باستهلاك أعيانها وإتلافها‏.‏ وما دامت في حقيقتها قرضاً فإنّه يجب ردّ مثلها، أو قيمتها إن انعدم المثل‏.‏ وتفصيل ذلك وبيان المذاهب فيه في مواضعه من اللّقطة الوديعة والعاريّة‏.‏

إتمام

التّعريف

1 - الإتمام لغةً‏:‏ الإكمال‏.‏ ولم نقف للفقهاء على تعريف اصطلاحيّ للإتمام، ولا يخرج استعمالهم عن التّعريف اللّغويّ‏.‏ هذا، وللإتمام إطلاق خاصّ يتّصل بالعدد لا بالكيفيّة، ومن ذلك إتمام الصّلاة بدلاً من قصرها، فكلّ من القصر والإتمام كمال، وإنّما لوحظ في لفظي الإتمام والقصر العدد‏.‏ وتفصيل ذلك في صلاة المسافر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - الإكمال‏:‏ الّذي يستفاد من تعريف الرّاغب للكمال والتّمام - كلّ في مادّته - أنّ هناك فرقاً بينهما هو أنّ تمام الشّيء انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه، وأنّ كمال الشّيء حصول ما فيه الغرض منه‏.‏ وعليه فالتّمام يستلزم الكمال‏.‏ وقد ظهر من تتبّع كتب اللّغة والتّفسير عند قوله تعالى ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ عدم وضوح فرق بينهما فيكونان مترادفين‏.‏ ولم يظهر فرق بينهما في المعنى الاصطلاحيّ‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - الحكم التّكليفيّ للإتمام أنّ إتمام ما شرع فيه المكلّف من طاعة واجبة واجب بإجماع الفقهاء، وإتمام ما شرع فيه من طاعة نافلة مختلف فيه‏.‏ ففي الجملة يذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب الإتمام أخذاً بظاهر قوله تعالى ‏{‏ولا تبطلوا أعمالكم‏}‏‏.‏ ويذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه غير واجب، على خلاف وتفصيل يرجع إليه في مواطنه لكلّ تصرّف بحسبه‏.‏ والأثر المترتّب على التّمام أنّه طالما يعني الإتيان بالأركان الضّروريّة فإنّ آثار أيّ تصرّف قوليّ أو فعليّ تتوقّف على الإتيان بها‏.‏ هذا، والفقهاء يفصّلون أحكام الإتمام بالنّسبة لكلّ مسألة فقهيّة في موضعها، ومن تلك المواطن مسائل النّوافل والتّطوّع بالنّسبة للصّيام والصّلاة وغيرها‏.‏

اتّهام

انظر‏:‏ تهمة‏.‏